الدعم العالمي لفلسطين- تحولات أوروبية واختراق معادلة الصراع.

المؤلف: ماجد الزير10.01.2025
الدعم العالمي لفلسطين- تحولات أوروبية واختراق معادلة الصراع.

لقد حقق المشروع الصهيوني على أرض فلسطين إنجازًا ملموسًا بصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، وهو القرار الذي أقرَّ تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، ومنح بذلك شرعية دولية للكيان المحتل "دولة إسرائيل"، الذي نال مقعدًا رسميًا بين دول العالم بإصدار القرار رقم 273 من الجمعية العامة أيضًا، وقبول عضويته في 14 مايو/ أيار 1949.

وسبقت هذا التاريخ عقود من التحركات الدولية الغربية التي مهدت له، وأبرزها موافقة عصبة الأمم في 24 يوليو/ تموز 1922 على صك الانتداب البريطاني على فلسطين، والذي استند في جوهره إلى وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 بتيسير إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

وأسفرت تلك الخطوات الدولية والتدخلات الصارخة، وما يمكن وصفها بمؤامرة مُحكمة الأركان، عن مأساة نكبة فلسطين عام 1948، التي أدت إلى تشريد ما يقارب 900 ألف فلسطيني في شتى بقاع الأرض وتحويلهم إلى لاجئين، ولا تزال معاناتهم مستمرة بأشكال مختلفة، سواء داخل فلسطين أو خارجها، ويتجلى ذلك بوضوح في المشاهد المروعة للمذابح الجماعية والتطهير العرقي التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة على مدار الشهور الماضية، ووقوع ما يقارب 4000 مجزرة، أسفرت عن استشهاد وفقدان ما يزيد على 54 ألف شخص، وإصابة أكثر من 104 آلاف آخرين (حتى لحظة كتابة هذه السطور).

وعلى الرغم من هذه الجرائم المستمرة بلا هوادة، والتي نقلتها وسائل الإعلام المختلفة للعالم أجمع لحظة وقوعها، وبدقة توثيق غير مسبوقة يصعب إنكارها أو دحضها، فإن الدعم الغربي بمختلف أشكاله السياسية والعسكرية والقانونية والدبلوماسية لا يزال قائمًا، وإن تفاوتت درجته بين الدول، ولعل أبرز مظاهره ما يصدر عن صناع القرار في واشنطن، حيث استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو حوالي 50 مرة لحماية دولة الاحتلال ومنع إدانتها، بما في ذلك 4 مرات خلال سنة واحدة من العدوان الحالي على غزة، وكان آخرها في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما أجمعت 14 دولة في مجلس الأمن على المطالبة بوقف فوري وغير مشروط للعدوان على غزة، بينما عارضت واشنطن ذلك بمفردها.

وإذا احتسبنا عدد مرات استخدام الفيتو لمنع إنصاف الشعب الفلسطيني، فإن الرقم يتجاوز 80 مرة. وحق النقض هذا، الذي يثير جدلاً واسعًا، يمنح مجموعة محدودة من الدول امتيازًا غير مبرر بالتحكم في مصير العالم، وهو ما يستدعي حملة عالمية لتعديل نظام الأمم المتحدة والعمل على إلغاء هذا البند المثير للجدل.

إن الحقيقة الجلية هي أن دولة الاحتلال لم تكن لتنشأ وتقوى وتستمر في النمو لولا تضافر عوامل عديدة، من أبرزها الدعم العالمي المتدفق، وخاصة من الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

وهنا تكمن الأهمية الإستراتيجية للبعد الدولي في القضية، وضرورة عدم إغفاله من قبل الشعب الفلسطيني وأنصاره في سعيهم لاستعادة الحقوق المغتصبة وتحقيق التحرير المشروع. فالتحرك في هذا الفضاء المفتوح، الذي يتيح مجالات حيوية على المستويين الرسمي والشعبي، يحرم دولة الاحتلال من ميزة التفوق التي طالما استخدمتها ظلمًا في اضطهاد الشعب الفلسطيني والاعتداء على حقوقه، خاصة وأنها متجذرة في العالم الغربي ومنسجمة معه بشكل وثيق.

وتتزايد الحاجة إلى العمل في المحافل الدولية لكسب المزيد من التأييد، في ظل ضعف الإسناد العربي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية، بل وانعدامه في بعض الأحيان. فما كان لمسلسل القتل الجماعي أن يستمر على هذا النحو الوحشي لأكثر من 400 يوم لولا غياب الموقف العربي القوي على المستويين الرسمي والشعبي، وكيف لنا أن نفسر صمود خمس اتفاقيات سلام عربية مع دولة الاحتلال، بما في ذلك اتفاق أوسلو، في الوقت الذي تواصل فيه آلة القتل والتدمير الإسرائيلية إلحاق أشد الأذى بالشعب الفلسطيني في غزة؟

ونؤكد على أهمية أن يبحث الفلسطينيون وداعموهم عن مساحات العمل المتاحة عالميًا، والاستفادة من قوتها على المستويين الرسمي والشعبي على حد سواء، مع التركيز على الأدوات المتاحة وسهولة تطبيقها ومدى استدامتها، وذلك في إطار القوانين المحلية والدولية.

ويحتل العالم الغربي، وخاصة أوروبا، مكانة متقدمة في جهود تنظيم حراك التضامن للضغط على دولة الاحتلال، وذلك لأسباب موضوعية عديدة تجعل من التحركات المناهضة لها في الدول الأوروبية، وضمن الأطر القانونية المتاحة، مؤثرة بشكل حقيقي وجوهري في مسار الانتصار للحقوق الفلسطينية.

ويمثل ذلك دعمًا للشعوب العربية والإسلامية عندما تشاهد شعوب العالم تنتفض نصرة للحق الفلسطيني، ويحرج الأنظمة الرسمية العربية ويدفعها إلى تحمل مسؤولياتها القومية والدينية والإنسانية تجاه فلسطين وشعبها.

وتتزايد أهمية الفاعلية الدولية مع قوة تأثيرها في كثير من الأحيان إذا تم تفعيلها بالشكل الصحيح، وما شهدناه من مظاهر حضور عالمي واسع النطاق لدعم القضية على المستويين الرسمي والشعبي خلال العدوان على غزة وحرب الإبادة الجماعية بين خريفي 2023 و2024 يثبت هذه الحقيقة.

ولعل الخطوة القانونية الدولية غير المسبوقة المتمثلة في إصدار مذكرة اعتقال وملاحقة من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت، تعد مثالاً واضحًا على إمكانية اكتساب أوراق قوة وضغط ضد دولة الاحتلال وصناع القرار فيها.

إن إجراء دراسة متعمقة، بالأرقام، لحجم الترابط بين دولة الاحتلال ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في مختلف جوانب الحياة، يكشف لنا أهمية تحقيق اختراقات داخل المجتمعات الأوروبية على المستويين الرسمي والشعبي لصالح حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ويفسر هذا الهوس الذي ينتاب صناع القرار في الدولة العبرية إزاء حضور الرواية والسردية الفلسطينية في الوعي الجمعي الأوروبي.

فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يعتبر الشريك التجاري الأول لدولة الاحتلال، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما 46.8 مليار يورو في عام 2022، وفقًا لمركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية، واستحوذ الاتحاد على 28.8% من تجارة دولة الاحتلال في السلع في العام نفسه. وبلغت نسبة واردات دولة الاحتلال من الاتحاد الأوروبي 31.9%، بينما بلغت نسبة صادراتها للاتحاد الأوروبي 25.6%.

ويكفي أن نشير إلى تصريح الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن هناك دولًا أعضاء في الاتحاد الأوروبي مستعدة لدعم إسرائيل في كل تصرفاتها، وهو ما يؤكد حجم الغطاء السياسي الذي تتلقاه دولة الاحتلال من الجانب الأوروبي.

وبناءً على ذلك، تحرص دولة الاحتلال على أن تبقى الساحة الأوروبية، كأحد ركائز دعمها في العالم، خالية من أي تشويش على علاقاتها، وأن تظل امتدادًا طبيعيًا لقوتها وتفوقها على خصومها، ولهذا فهي تشن حربًا شرسة ضد أي تنامٍ للقوة الفلسطينية أو الداعمة لفلسطين، والتي من شأنها إحداث توازن على الصعيد الأوروبي.

ووفقًا للموقع الرسمي لتلفزيون (تي آر تي) باللغة العربية بتاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نقلاً عن بروفيسور علم الاجتماع في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف حول لوبيات إسرائيل وأدواتها الرقابية في القارة الأوروبية، فإن هذه اللوبيات تنفق ملايين الدولارات لملاحقة النشطاء والمدافعين عن الحق الفلسطيني لتشويه صورتهم في الإعلام والتضييق عليهم.

وعلى الرغم من وجود هذا اللوبي الإسرائيلي وغيره من التحديات أمام حراك التضامن، فإن انكشاف الحقائق وتجليها خلال العدوان على غزة ونقل الجرائم للعالم ساهم في زيادة وعي الشعوب بحقيقة الصراع وتمييز الظالم من المظلوم والجاني من الضحية، وإدراك حجم فداحة الجريمة وفظاعتها، وكل ذلك يؤثر بشكل متزايد على متانة العلاقة بين أوروبا ودولة الاحتلال في مختلف المجالات، وخاصة المزاج العام الشعبي الذي بدأ ينتقل إلى مرحلة الفعل والتأثير والضغط على صناع القرار لثنيهم عن تقديم الدعم لدولة الاحتلال.

وبدأت ثمار ذلك تظهر سريعًا في المجالات السياسية والقانونية والإعلامية والشعبية والاقتصادية، وفي قطاعات النقابات والأكاديميين والطلاب، مما يبشر بعهد فلسطيني جديد يتبلور بقوة في الدول والمدن الأوروبية.

ولعل الأمثلة القريبة التي سنوردها تدل على حجم التغيير، فالمظاهرات والفعاليات الشعبية أسبوعية، بل أصبحت شبه يومية، في العواصم والمدن الأوروبية، حتى إن حجم هذه الفعاليات، وفقًا للمركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، يقترب من 30 ألف مظاهرة في 620 مدينة ممتدة على 20 دولة أوروبية.

وفي الجانب السياسي، تمثل ذروة التطور في خوض المتضامنين النمساويين الانتخابات المحلية النمساوية في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي بقائمة تحمل اسم غزة، حيث عُرض اسم غزة على ورقة الترشيح ضمن 11 قائمة وطنية مرت على ستة ملايين ناخب يحق لهم الانتخاب، وعلى الرغم من أن هدف الناشطين كان توعية الجمهور بقضية غزة، فقد حصدوا أكثر من عشرين ألف صوت، ما عدّه السياسيون "زلزال غزة"، واللافت أن قائمة غزة ضمت 21 مرشحًا من خلفيات متنوعة، بينهم نمساويون من السكان الأصليين وأتراك وبوسنيون وعرب من جنسيات مختلفة، ومن ديانات مختلفة، كاليهود والمسيحيين والمسلمين والملحدين، ومن مختلف الأطياف السياسية، كاليسار واليمين.

وكمثال آخر على التقدم الداعم في المجال القانوني، ففي اليوم الذي صدرت فيه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت، حققت ثلاث محطات قانونية في ثلاث دول أوروبية انتصارات، ففي روما الإيطالية كسب أنصار الحق الفلسطيني قضية في محكمة الاستئناف العليا ضد تلفزيون "راي" الرسمي الإيطالي، الذي كان قد اعتبر في نشرة أخبار أن القدس عاصمة إسرائيل، وقد ألزم القاضي التلفزيون في قراره بإعلان خطأه في نشرة مماثلة والإقرار بأن القدس ليست عاصمة إسرائيل.

وفي باريس الفرنسية، كسبت النائبة في البرلمان الأوروبي عن فرنسا، ريما حسن، وهي برلمانية من أصل فلسطيني، قضية ضد منعها من إلقاء المحاضرات في الجامعات. وفي الوقت نفسه، رفع نشطاء هولنديون دعوى قضائية ضد الدولة الهولندية لوقف تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، وقام التلفزيون الرسمي ببث وقائع المحكمة، مما ساهم في نشر الوعي لدى الجمهور الهولندي بحقيقة الأحداث.

ونقل موقع (هلا) للأخبار في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 عن تحليل أجرته وكالة رويترز أن حجم الاستثمار المالي الأوروبي في دولة الاحتلال شهد انخفاضًا ملحوظًا، حيث بلغت نسبة الانخفاض 29% من حجم الاستثمار العالمي في الدولة العبرية لعام 2023، وذلك نتيجة للضغوطات الدولية المتزايدة عليها بسبب عدوانها على غزة.

إن الحقيقة القاطعة هي أن أحداث غزة ساهمت بشكل جذري ودراماتيكي في تحقيق اختراق في معادلة الصراع على الصعيد الدولي، على المستويين الرسمي والشعبي، وأصبح العامل الدولي بشكل عام غير مضمون بالضرورة لصالح دولة الاحتلال، ويعزى ذلك إلى عوامل عديدة تضافرت لتقديم صورة متكاملة للحق الفلسطيني، مما يتطلب يقظة إستراتيجية على الصعيد الفلسطيني وداعمي الحق الفلسطيني من أجل تعزيز هذا التوجه وتطويره واستدامته في مسيرة استعادة كامل الحقوق الفلسطينية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة